قررت عائلة جبران وخصوصا أمه أن الشهرة المبكرة ستعود عليه بالضرر، وانه لا بد أن يعود إلى لبنان لمتابعة دراسته وخصوصا من أجل إتقان اللغة العربية .. وكان قد أثار تردد جبران المتزايد إلى أوساط "داي"، الذي لم تكن سمعته تدعو للارتياح، قلق الأسرة. وازدادت الأمور سوءاً بعد أن وقع في شراك زوجة تاجر في الثلاثين من عمرها، وغيابه المتكرر عن البيت ليلاً. وكان قد فتن قبلها بامرأة أخرى... وفكرت كاملة بإعادة ابنها المراهق إلى لبنان. ولم يعترض جبران فوصل جبران إلى بيروت وهو يتكلم لغة إنكليزية ضعيفة، ويكاد ينسى العربية أيضا.
رحل إلى بيروت في 30 آب 1898. كان بين أمتعته الأناجيل وكتاب لـ "توماس بلفنيتش" في الميثولوجيا اكتشف فيه الفنان الناشئ جبران دراما "بروميثيوس"، وأسطورة "أورفيوس"، والنبي الفارسي "زرادشت"، والفلسفة الفيثاغورسية، والأساطير الهندية...
هرع جبران فوراً إلى بشري، وحضن أبيه، وتوافد الأقارب والأصدقاء لرؤية "الأمريكي". كان بينهم أستاذه الشاعر والطبيب "سليم الضاهر"، الذي نصحه بمتابعة دروسه في "كوليج دو لا ساجيس"، التي بقي فيها زهاء ثلاث سنوات. ورغم تأخره في العربية الفصحى، "طلب" الفتى قبوله في صف أعلى وعدم سؤاله قبل ثلاثة أشهر. وقبل القيمون "شروط" جبران، الذي أعجبتهم جرأته وقوة شخصيته. كان من بين أساتذته الأب "يوسف حداد"، الشاعر والكاتب المسرحي الذي اكتشف برفقته كنوز اللغة العربية، وابن خلدون، والمتنبي، وابن سينا، والشعراء الصوفيين. وبدأ يجيد التعبير عن أفكاره بلغته الأم، وكتب أولى نصوصه بالعربية. وتعلم الفرنسية وأخذ يقرأ آدابها. ويتذكر جبران أن تلك المدرسة كانت صارمة؛ وأنه لم يكن يمتثل لمعلميه؛ وأنه كان أقل تعرضاً للعقاب من بقية التلاميذ، لأنه كان يدرس كثيراً. كان في الصف يسرح في فكره دائماً، ويرسم، ويغطي كتبه ودفاتره برسوم كاريكاتورية لأساتذته. كان جبران في نظر رفاق الصف غريباً، بشعره الطويل الذي يرفض قصه، ومواقفه غير المألوفة.
في بداية العام 1900، مع مطلع القرن الوليد، تعرف جبران على يوسف الحويك واصدرا معا مجلة "المنارة" وكانا يحررانها سوية فيما وضع جبران رسومها وحده. وبقيا يعملان معا بها حتى أنهى جبران دروسه بتفوق واضح في العربية والفرنسية والشعر (1902) وكان في عام 1901 تم اختيار إحدى قصائده لنيل الجائزة التقديرية. وكان يتوق بحماس لنيل هذه الجائزة، لأن التلميذ الممتاز في هذه المدرسة هو الأكثر موهبة في الشعر، كما قال.
حمزة جودراني